عن سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال: لما كان يوم فتح مكة إختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟» فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟، قال: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» رواه أبو داود والبيهقي.
[] معاني المفردات:
= كل ذلك يأبى: المقصود أنه كان يرفض قبول بيعته.
= أومأت إلينا بعينك: أشرتَ بطرف عينك.
= خائنة الأعين: أن يومئ بعينه ما يدلّ على أنّه يضمر بقلبه غير ما يظهره للناس.
[] تفاصيل الموقف:
وجاء يوم الفتح، وأقبلت جيوش المسلمين المظفّرة رافعة لواء التوحيد عالية خفّاقة، لتعلن عودة الذين أُخرجوا من ديارهم جوراً وظلما،ً وطردوا من أرضهم إجباراً وقهراً، ليدخلوا مكّة في عزّة لا كبر فيها، وفخرٍ لا غرور فيه، وتمكّن لا عدوان يمازجه، وبذلك الحدث العظيم طويت صفحة الماضي بكل عذاباته وأحزانه ومآسيه، وبدأ تاريخ جديد مشرق الجنبات بأنوار العدل والحق.
وعلى النحو الذي توقّعته قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن دخوله كدخول الجبابرة من ملوك الأرض عادةً، بطشاً وإحراقاً، وتنكيلاً ونكاية، بل كان قدومه عليه الصلاة والسلام قدوم خير وبركة، وأمن وسلام، ليأمن من كان في بيته على نفسه وماله، ويسلم من لاذ بحمى الكعبة أو ظلّله سقف بيت أبي سفيان رضي الله عنه، ثم تتمّ النعمة عليهم بصدور العفو العام من قِبَل النبي عليه الصلاة والسلام: «إذهبوا فأنتم الطلقاء».
ويتنفّس القوم الصعداء، شاعرين بعظيم الإمتنان لتلك المبادرة السامية، ولا يمرّ وقت طويل حتى يتبيّن أن ذلك العفو على عمومه مخصوص، فثمّة رجال أربعة وامرأتان لم يشملهم العفو، جمعوا إلى كفرهم وضلالهم، وغيّهم وفسادهم، جرائم خاصّة في حقّ النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق الدعوة، وحقوق الأبرياء الذين قُتلوا على أيديهم وبأسبابهم، وكانت أسماؤهم كالتالي: ابن خطل، وعكرمة بن أبي جهل، ومقيس بن صبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، وجاريتين كانتا تحت رجل من قريش تغنّيان بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وما إن لامس الخبر آذان أولئك حتى بادروا بالفرار شرقاً وغرباً، رغبةً في الخلاص من شبح الموت الذي يلاحقهم، فمنهم من إستجار بالكعبة -وهو ابن خطل- وتعلّق بأستارها ظنّاً منه أن ذلك يُنجيه من قرار القتل، لكن أوامر النبي صلى الله عليه وسلم كانت واضحة منذ اللحظة الأولى: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة» فسارع إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر رضي الله عنهما فسبق سعيد إليه فقتله.
وبالمثل فقد كان لكل واحد من هؤلاء الذين وردت أسماؤهم قصّة، تحمل في طيّاتها جذور ماضٍ مظلم وتاريخاً غير مشرّف، ويبرز من بينهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح، ذلك الرجل الذي أسلم قديماً وهاجر فيمن هاجر، وترقّى في منازل الشرف حتى صار من كتّاب الوحي، ليهوي من القمّة إلى القاع، ويُعلن ردّته ثم يلحق بقريش، بل ويدّعي بأقبح الإفتراء وأشنعه أنّه كان يُملي الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النوع من الكذب الرخيص يطعن في أصل نبوّته عليه الصلاة والسلام ويقدح في صدقه، فلا عتب إذاً حين لم يشمله العفو العام.
وكان لعبدالله بن أبي السرح قرابة مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، والصلة بينهما جاءت بسبب الرضاعة، فكان من الطبيعي أن يُسارع إلى بيت أخيه رضاعةً، وقد أعلن أمامه ندمه على ما كان منه من كذبٍ وإفتراء، وعداوةٍ وإجتراء، وذكر له رغبته في العودة إلى ظلال الإسلام، ورجاه أن يشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخذ عثمان رضي الله عنه بيد أخيه، وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينفذ إليه أحد من المسلمين، وكلّمه في شأنه ثم قال له: يا رسول الله، بايع عبد الله.
نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ابن أبي السرح طويلاُ دون أن ينطق بشيء، ووقف الصحابة من حوله يرقبون الموقف، وطال الصمت، فعاود عثمان رضي الله عنه قوله دون أن يحظى بجواب النبي عليه الصلاة والسلام، فكرّر طلبه للمرّة الثالثة، وهنا مدّ النبي عليه الصلاة والسلام يده موافقا على المبايعة.
وإنصرف عبدالله مسروراً بقبول توبته والموافقة على بيعته، وما إن توارى عن الأنظار حتى التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه معاتباً، وقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟».
نظر القوم إلى بعضهم والحيرة تملأ وجوههم، إذ لم يدُر بخَلَد أحدهم أن إحجام النبي صلى الله عليه وسلم كان مقصوداً، وأنه عليه الصلاة والسلام كان راغباً في قتله، فقالوا تأكيداً لحيرتهم: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، وسألوه: ألا أومأت إلينا بعينك؟.
ولكن لا، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليومئ بطرف عينه خلاف ما يُظهر، حتى لا يتلبّس بشيء من أفعال أهل الغدر، والغدر -دقيقه وجليله، حقيره وعظيمه- لا ينبغي لمن اصطفاه الله لمقام النبوّة والرسالة.
[] إضاءات حول الموقف:
يدل الحديث على قبح خلق الخيانة الذي أجمعت على إستنكاره وبغضه آراء الناس على إختلاف مللهم ونحلهم، وكفى به قبحاً أن صاحبها مذموم عند الله، كما جاء في القرآن الكريم: {إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال:58].
وها هنا صورة دقيقة من صور الخيانة قد لا يتنبّه لها كثيرٌ من الناس، والفضل يعود إلى هذا الحديث ليبيّن هذه الصورة ويوضّحها، ألا وهي الخيانة بالعين.
والحال أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يقتل الرّجل لكذبه وإفترائه عليه، ولا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يوهمه بأنّه سيتركه ثم يغمز بطرف عينه إلى أصحابه ليقتلوه، وشأن الأنبياء صلوات الله عليهم أن يوافق ظاهرهم باطنهم، وسرّهم علانيّتهم، بكل وضوح وشفافيّة لا مواربة فيها، فإما أن يعفو، وإما أن يجدّد الأمر بقتله.
وعلى أية حال فقد كان العفو من مصلحة هذا الصحابي الكريم، فقد حسن إسلامه بعد ذلك، وولاه عمر بعض أعماله ثم ولاه عثمان رضي الله عنه مصر كلها، وشارك رضي الله عنه في ثلاث معارك كبرى: معركة أفريقية، وذات الصواري، والأساود، وأبلى فيهنّ بلاء حسناً، بل وينقل الحافظ ابن كثير رضي الله عنه في البداية والنهاية ما يدلّ على حسن خاتمته فيقول: ..ومات وهو ساجد في صلاة الصبح أو بعد انقضاء صلاتها.. فرضي الله عنه وأرضاه.
المصدر: موقع إسلام ويب.